الكاتب فهد الاسدي
أديب عراقي كبير
القصة ضمن المجموعة القصصية الثانية طيور السماء -1976 :
1-صوت الراوي :
من مساقط خلجان ( مسقط ) حتى مدخل حلق ( الخورة) زبد البحر العاتي يلطم الصخور السوداء – ابصرته ( غريبة ) جيدا" في مسيرة المهانة على درب الاقراش والسمك الصغير ووعت جيدا" السطور –
وهنا – انت يامن تقف كالمتفرج بعد ان تعطي ظهرك لتلك الدوامة العنيفة يصدمك مربع الحبال المشدودة – وتحت العلم الجديد ورغما" عن خيوط العريف الجديد ( نصر) تنبعج خطوط المربع الى الداخل والخارج – تختنق الانفاس ويسيل الانتظار بعيدا" عن العيون – اذ هنا وبعد ساعة ستأكل الطير من رأس جثة :
لأضحية أم لأدمي ؟ لا ادري – ولكن ما أدريه : ان هذه الجثة ولدت ميتة قبل الشنق
أماتها السادة ولذا فالعدل – هه – هه ---- هذا الخنزير الذي لايرى الا امامه –
لايربح من القضية غير ( ألقينا القبض على القتيل و فر القاتل ) –
لماذا تشنقونه ؟ أعيدوه الى القطيع على الاقل –
همس بها صوت خافت – ثم التهمه الزحام – ومات أخر عود من ( الرازقي ) في نفس ( غريبة ) وودت لو امتدت الصيحة لتشمل الكون بأسره ولكن ها هما عيناه تبيضان والاخرون يحسبونها الهية حتى وهي تحزن –
قبعت غريبة في الزاوية القريبة من خشبة الشنق وشقت صدرها عن ثديين عجفاوين وانحطت المشس بكل ثقلها على سوادهما فلمعت عيناها ببياض السحب
السحب التي استهلكت امطارها من طول ما أمطرت –
أما في عيون الزحام فلم يكن هناك سوى التسليم –
بعض الفقيرات قعدن حولها ينتظرن ان تنشق السماء عن معجزة –
يونس في بطن الحوت وانجاه الله و ( حلب ) فقير عمره ما فعلها – لكن ماذا
والدنيا بلا رحمة ؟ وثارت الاتربة تحت حذاء العريف نصر تعوذت النساء من طلعته ونكس الرجال رؤوسهم الى التراب مخافة أن تسقط عليهم نظراته
هذه النقمة التي أتت بها رعونتهم –
وتستعاد صورت ذاك اليوم – يذكرها الرجال فيبتسمون والمرارة تملأ نفوسهم :
كان يوم يوم حاولوا أن يقلدوا فيه هرج المدن الاخرى – ركبت رؤوسهم فرحة الاطفال فالانباء المتساقطة أرعبت القائمقامية ففرت بكل قضها وقضيضها وهجم الشجعان منهم على المركز واستسلم الشرطة المساكين بلا مقاومة قائلين :
( للبيت رب يحميه ) –
ثم تدفق سيلهم الى البنادق فسرقوها – مزقوا السجلات ونهبوا الاثاث ولم يبارحوا المركز الا بعد أن تركوه أثرا" خربا" – ثم توجهوا الى المدرسة – حطموا ابوابها ونهبوها - حسان أصر على أن في نموذج الكرة الارضية خزينة يضع فيه المعلمون مدخراتهم وعندما كسرها ولم يجد – انشقت بطون الناس عليه من الضحك وابنه الخرف لهث كثيرا" وهو يجر صندوق التباشير قائلا" :
المعلم ما اعطاني فرصة للكتابة وراح يتسلى بتوسيخ جدران البنايات بكتاباته
وفي الهجوم على المستوصف شربت احدى الفلاحات كل مافي زجاجة ( اليود)
ظانة انها شراب يخفف المها فخف المها الى الابد –
لقد أطبق على المنطقة جنون ولم تصح الا على ضربات عصا ( نصر) المتينة
جيء به عريفاط وأوعد بأن تاجا" سيلمع فوق الخيوط الثلاثة الحمراء على ذراع ابن الشمال الذي عجنت طينته من صخور الجبال –
كان يرى في شوارب الاخرين تحديا" لشاربه الكث المهيب – أمر يدل على أن نفوس هؤلاء الفلاحين رغبة بالشموخ واصرارا" على العصيان أو ربما فيها ظن بانه كالعريف السابق الذي ترك لهم سلاحه – لذا عمد الى طريقة فضلى :
ينتف شارب الواحد من جهة ويرتكه من الاخرى ثم يهتز كرشه بكركرة صافية وهو يبصر وجوه الفلاحين لا بل حتى ( السراكيل الصغار) المهانة تقعي بأبصارها دون أن تجرؤ على أن تملأ عيونها بصرامة وجهه –
ملأه الزهو يوم اخبرته امرأته بأنه صار خيال مقاتة للاطفال وكم انتشى وهو يراهم يهربون من امامه هازجين :
( هذا نصر – هذا نصر –صارت شواربهم بتر )
شكاه البعض منهم قالوا : هذا نقمة –طاعون ولكنهم ردوا – قيل لهم : وما بها ؟
انه النقمة التي اعادت العقل الى رؤوسكم –
في كل ذلك المربع المنبعج المتدافع في محاولة للاقتراب من خشبة الصلب
كان وصول نصر يشكل لحظة الانجماد – بعد وصوله – وصل الموكب :
المحكوم عليه بالاعدام مصفد ووجهه الزنجي يححمل استسلاما" غريبا" يبدو عليه فضفاضا" – يتقدمه شرطيان ويتأخر عنه أخران – بعدهم تجيء هيئة التنفيذ مهيبة : ضابط الشرطة والطبيب وموظفون اخرون معهم الشيخ الكبير يتبعه بعض اولاده والشيخ الديني الملقن –
اشرابت الاعناق كجمع من الكراكي الصانتة ثم سرت همهمة عالية – دارت عصا نصر سريعة فاعادت الى الحشد صمت الترقب –
وبدأت التلاوة (( ولكم في القصاص حيوة يا أولي الالباب )) –
بصوت متحشرج كأنه يخرج من ألة صدئة –ثم تلي القرار :
( بأسم صاحب الجلالة – حكمت المحكمة على المجرم حلب ابن غريبة -----)
وترتفع الهمهمة مغمغمة : ابن غريبة – ابن غريبة – ولماذا ؟
وتنسكب حرارة التساؤل في أذنيها –
فالى تهويمة اخرى يا غريبة –
2- الفجيعة :
نعم ابن غريبة لانكم لم تعرفوا له ابا" لكنني اعرفه جيدا" – عرفته أسود مثلي بلون القار – كما تصفون سحنتي – لون القارب الجديد وكنا بمسكت ( في مسقط)
شربنا الملح وجرح عيوننا سفي رمال الصحراء وعندما يطل تموز وينشف الماء في الكوز تشرب ثيابنا رطوبة الخليج الملحية – نرتخي مساء ونسمع مواويلهم الممطوطة الرخية كرخاوة اشرعة لاتملؤها الريح –
نكاد نراهم يجرون البوم (( نوع من السفن يجوب بين الخليج العربي والبصرة))
ويجرون قفاه الى السفينة وحز الحبال على متنه يعاود وجعه وهو يجر –
يصلني فيريح قفاه على الرمال الندية –أذر حفنة من الرماد على جراح متنه
يلتمع سواده بضوء القمر تنطبع على وجهه سحنة باكية ويغمغم :
البحر – البحر عاقر ياغريبة
الله الرزاق --- الله الرزاق يامبروك
اردت أن أبعث به حميا الحماس فقد مللنا أكل بنات عرس – ثدياي يجفان وهذا ( حلب ) النكد يملا الصحراء صراخه – القمه أصبعي لينام على الوهم –
تصلنا ريح العراق فتملأ روحي – اهتف برجاء :
النخيل يامبروك النخيل –
مابه –
نفسي ( أطوش ) هناك – الطوش ولاهذه العيشة –
وكنت معهم في طريقنا الى البصرة عندما اجبروه على النزول الى الماء للاصلاح خشبة الدفة – كنت اسمع كثيرا عن دوامة المياه في حلق ( الخورة )
كانت الاقراش كرجال الشر تتربص – تنتظر ولو ظلا" لساق متدلية من حافات السفن حتى تنقلب لتضرب بذنبها وبعنف – كان الرجال يعبثون معها –
فترتطم اذنابها بصفحة ( البوم ) العملاقة – لكنها ذاك اليوم أجادت خدعنا
سكنت طويلا" ثم ضربت بقسوة – تلوى في الماء بعنف ثم غاص ولم يترك اثراط سوى دماء كنقيع الحناء كانت تصبغ الماء –
صرخت فيهم : قتلتموه –
لم تجبني سوى الاصداء – وكان الشاطيء تزحمه النخيل ولكنني وجدت منظرها شائها" اسود كسواد البحارة وهم يتلونون بسخام الفجيعة –
3-مهاجع الذل :
أكنت ضالا" حقا" ياحلب – أم انك لم تعرف من البداية الهداية ؟
أمرك ابن الشيخ يوم الهرج بان ترقى السارية – ناولته الخرقة التي بهتت ألوانها
قهقه مزهوا" ولم تكن تعرف لم يضحك – جرها منك وراحت لبلاها تتقطع بين يديه وبقي العمود فارغا" كعنق طويلة عارية تغري بالصفعات –
في محاكمتك – هر احد الحكام :
لقد راوك وانت تصعد ---
امروني يا سيدي – أمروني – ويصفعك صوت كقرن ثور لايرحم –
كان عليك ان ترفض – لقد مزقت علم امجادنا ايها التيس – لقد مزقت علم المملكة
يريدون منك ان ترفض ولكن هل استطعت يوما" وبوجه القار هذا ان ترفض اوامرهم – وها هم الان يحتمون وراء ظهر ابيهم الشيخ – ومعه كل هذه العساكر والنجوم اللاهثة – وها انت معلق بين الحياة والموت –
قبلا" ماتت رجولتك على مواقدهم :
حلب صب القهوة – حاضر محفوظ
حلب هات العشاء ---- حاضر محفوظ
حلب اغسل الايدي --- حاضر محفوظ
وفي غرف ( العمات ) وتحت نور فانوس يهب الظلال الكثيرة –
كان شحم الزوجة الصغرى يتلوى مغناجا" تعصف به النار والماء يسفح بعيدا" عنها في حياض الاخرين –
ها – حلب – اين عمك المححفوظ ؟
عمة – قال انه مشغول الليلة – لن يأتي –
مشغول – في كل ليلة مشغول ومن لنا نحن ؟
ويسود صمت ثقيل – يهتف بعدها الشحم امرا"
حلب تعال اعصر يدي --- حاضر يا عمة
حلب ورجلي --- حاضر عمة
حلب اصعد يديك الى فوق --- حلب فوق --- فوق ----
وتعرق ياحلب كثيرا" --- تبتل ثيابك – تتضخم أوردتك وتحس وكأنك تحولت الى أتون مشتعل تبرز من مئات الالسن وتظل الاصابع تجوس مرتجفة تمسد اللحم – نداء يجر – واخر يمنع - -- حلب اقترب لاتخف –
وتمسع من بين ركامات الطنين صوتها ----- صوت غريبة –
الصوت الذي اعتدت سماعه اثناء صلاتها وخلال طقوسها الليلية – انه صوت الام غريبة : أ - لاتبل في ماعون تأكل فيه --- حلب --- الشيخ لايرحمك – لا حلب – لا ويهتف الشحم بهياج : حلب اقترب لاتخف – لا احد يدري – ساقول للشيخ لو لم تفعل – ويضيع صوت غريبة وسط هذه الاوامر – لم تستطع يوما" أن ترفض – لم تجرب هذه المتعة والامر صارم والاناء جوع يفتش عن رواء –
وعلى بياضها الشهي – فقط – عرفت انك مثلهم – ولكن في الجوع ابيض وقلبك يا حلب وعند الامتلاء تعود اسود كاالليل – نتن الرائحة –
هتف الشحم الذي تحتك امرا" : قم ياصخل اياك – لاتقل لأحد –
ولم تقل حتى لها وبقيت النساء امرات وبقيت امك غريبة تروح وتجيء – تدور كحصان الناعور في ذلك البيت الكبير – يتجمع في موق عينيها حزن كل الايام تهتاج احيانا وتصرخ لكن هياجها لايثر سوى ضحك العمات – أوقات القيلولة وهربا" من السأم تعقد حلقات الرقص وترتفع الاوامر والصيحات :
غريبة – هزي – غريبة دفي –
ويوم الهرج والفرهود فما الذي ألهاك ؟
قلت لها : ابن الشيخ ألهاني فأخذني معه –
صدقتك ولكن الحكام لايريدون تصديقك –
4-الحلم :
تقلص المربع بعنف وتسمرت العيون على بقعة التنفيذ حيث خشبة الصلب لم تأبه الاجساد للسع عصي نصر وشرطته واخيرا" صمتت العصي هي الاخرى امام هذا التحدي –
قرب المحكوعليه من المقصلة ثم اصعد فوق الخشبة وتحت الحبل المتدلي انحنت القامة كعلامة استفهام – لن يرجع حلب لنا ليخبرنا ايهما كان الاقسى عليه حياته ام طريقة موته –
لنترك كل هذه الحيرة لعلماء ( العدالة والجريمة ) ولنعد الى غريبة :
حين شعر القلب الاقرب بالنهاية : صات الصوت عنيفا" مزخوما" ووجدت نفوس اخرى وكأن صراخ غريبة اصداء ريح تردد حزنهم كلهم وعندها تعانقت اصوات بيضاء مع صوتها الاسود فتابعت العزف بلذة وودت غريبة لو اشتركت كل الدنيا بصوت واحد لا مجرد اغوار تمور في صمت مبهم –
وتندى المربع لكن الحزن لايرجع ميتا" – ثم غامت عينياها وفعلا" لم تعد تبصر المربع المتقلص وهومت من جديد ووجدت وكانها تطير في اجواء غريبة رحيبة بين مخلوقات اثيرية شفافة – تحزن ولكنها تعبر عن احزانها بشيء من البكاء-
وكبر الموكب وكبرت صرخته – زحمها الى ارض المربع وحط هناك
تقدم فارس اثيري لاتميز له لونا" معينا" – قطع الحبل ثم خلص الرقبة المسكينة – وتوزع الاخرون ينقرون رؤوس هياة التنفيذ ثم مسحوا الساحة من أثار الحشد وخلا مربع الشنق الا من حلب فاتحا" لها صدره كباب عدن رحيب – هزت جسد غريبة اكف كثيرة – حركته بقوة لكنها لم تجب – كانت في عناق مع حلمها وابتسامة مضيئة تتوج هذا الوجه المغمض –
ابتسامة لم يفهمها الاخرون لانهم لايحلمون –
------فهد الاسدي ---- 1970 -------------
انجز الراحل رواية الصليب حلب بن غريبة عن قصته طيور السماء بعد ان استغرق في كتابتها خمسة اعوام وبقيت على رف مكتبته (من عام 1976 ولغاية 2008) وقد رفضت الجهات الامنية الرقابية طبعها انذاك و ابصرت الرواية النور اخيرا" في عام 2008 حيث اشترك كل من اتحاد الادباء العراقي ومؤوسسة الشوؤن الثقافية في طبعها ورشحت الى مشروع ترجمة افضل مائة عربية والذي يضطلع به اتحاد الادباء العرب في القاهرة علما بانها قدمت الى المسرح من قبل الفنانة عواطف نعيم كمسرحية باسم ( مطر يمة ) اخرجها الفنان المبدع الكبير عزيز خيون وكان دور البطولة حلب من نصيب الفنان الكبير جواد الشكرجي في عام 1990 حيث اشتركت في مهرجان المسرح العربي في بغداد وحازت على اعجاب النقاد العرب والاجانب انذاك وقد افتعلت الجهات الامنية حريقا" في المسرح لوقف عرض المسرحية في نهاية مشاهدها ولم تعرض المسرحية بعد ذلك مجددا -